إن الحب والتآخيَ في الله من نعم الله على عباده المؤمنين ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: 103)، ولقد فهم المسلمون الأولون- رضوان الله عليهم- من الإسلام هذا المعنى الأخوي، وأملت عليهم عقيدتُهم في دين الله أخلد عواطف الحب والإلف، وأنبل مظاهر الأخوة والتعارف، فكانوا رجلاً واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدةً، حتى امتنَّ الله عليهم بذلك في كتابه ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: 63).
للأخوة في الإسلام مكانةٌ ساميةٌ لا تدانيها مكانة؛ إذ هي اللبنة التي يقوم عليها بناء العمل من أجل الإسلام والتمكين لدين الله في الأرض، ولا يمكن أن ينجح هذا العمل الذي يقوم به عددٌ من المسلمين أو جماعةٌ إلا أن يكون بين هذه الأعداد أخوةٌ في الإسلام تُعين على تحقيق التعاون والتفاهم والتناصر بينهم، والأمة الإسلامية في مجموعها- مهما تكاثر عليها أعداؤها كما هو شأنهم اليوم، ومهما كادوا لها وتغلبوا عليها وانتقصوا من أطرافها- فإن بيدها مفاتيحَ النصر على هؤلاء الأعداء، ومن هذه المفاتيح الأخوة في الإسلام؛ ففي الأخوة وحدةٌ وتجمعٌ، وفي الوحدة قوةٌ، وهي بهذه القوة تواجه أعداءها كائنين من كانوا؛ فالأخوة من أسباب قوة المسلمين؛ فبها يصير المسلمون صفًّا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص، لا يستطيع عدوٌّ أن يَنفُذَ إليهم ما داموا إخوةً متحابين ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4).
ولقد أدرك الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله مكانةَ الأخوة وعظيم أثرها في بناء وتربية النفوس؛ ولذا جعلها الإمام البنا ركنًا من أركان البيعة، ولا تتم بيعةٌ إلا برباط الحب والأخوة في الله، فيقول رحمه الله: "وأريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدةَ بغير حب، وأقلُّ الحب سلامةُ الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: من الآية 9)، والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصيةَ، والمؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشدُّ بعضه بعضًا، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71)، وهكذا يجب أن نكون.
إن سلامةَ الصدر وصفاءَ قلبِ المؤمن نحو أخيه من أهم مظاهر الحب في الله وأشقِّها على النفس؛ لأنها تعني تنقيةَ الصدر من أي مشاعرٍ غير محمودةٍ، كسوء الظن بأخيه وغيرها من الهواجس التي تحيك في الصدر، فتوقعه هذه المشاعر فيما لا ينبغي أن يقع فيه المؤمن.
إن سلامةَ صدر المؤمن نحو أخيه المؤمن تقتضي ألا يظنَّ به إلا خيرًا، وأن يلتمس لأخيه العذر إن رآه يقول أو يعمل شيئًا يعتذر منه مما ليس حرامًا، وليس له أن يسيء الظن به؛ فلعله إنما فعل ما فعل متأوَّلاً، أو حمله عليه ظرفٌ قاهرٌ، أو أُكره عليه، أو نحو ذلك.
ومن سلامة الصدر أن يسكت الأخ عن ذَلَّة أخيه، وأن يتجاهلها كأنه لم يرها، كما يحرص على عدم مماراة أخيه وجداله؛ لأنها تدل على تآكل الحب في قلبه لأخيه.
ومن سلامة الصدر أن يدعوَ لأخيه بظهر الغيب، يدعوَ له بكل ما يحبه لنفسه، وفي ذلك دلالةٌ على نقاء قلبه من كل شائبةٍ تعكره؛ فسلامة الصدر تتطلَّب أن يعيش الأخ مع إخوانه بلا نفس؛ حتى يسهل عليه التحلي بكل ما ذُكر من مظاهر ودلالات الصدر السليم والقلب النقي والنفس المتواضعة التي لا تحمل إلا الحب والتقدير والاحترام لكلِّ مَن اجتمعت قلوبهم على محبة الله، والتقت على طاعته، وتوحَّدت على دعوته.
وأعلى مراتب الحب في الله الإيثارُ، والإيثارُ خُلُقٌ فاضل يتحلَّى به المؤمن الذي يرغب في نفع غيره أكثر من نفع نفسه، ويقابل الإيثار الأثرة، وهو أن يفضِّل الإنسان نفسَه على غيره كما يروى في الحديث الشريف "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكرونها"، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم".
ولقد أثنى الله على خُلُق الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: من الآية 9)، وإيثار المؤمن لأخيه إنما هو بطيبات الدنيا ونعمها، لا بالدين ولا بالأوقات المصروفة في العبادة التي شرع الله فيها التنافس.
وخُلُقُ الإيثار هو خلق الفضل، وصاحبه مُطاعٌ محبوبٌ ومَهيبٌ، ومن أوتي خلقَ الإيثار فقد أوتي خيرًا كثيرًا في الدنيا بحب الناس له، وفي الآخرة بحسن جزاء الله له سبحانه وتعالى ومن تعامل بالإيثار مع إخوانه فحسبه ربحًا ومحمدةً أنه وُقِي شُحَّ نفسه وكان من المفلحين، وفي الإيثار قصصٌ كثيرةٌ من الصحابة والتابعين- رضي الله عنهم- ولقد أعطى أصحاب هذه الدعوة المباركة نماذجَ رائعةً من الإيثار في أثناء المحن والابتلاءات التي تعرَّضت لها الدعوة.
إن الحب والتآخيَ في الله يُوجب على المؤمن نحو أخيه عددًا من الواجبات، وله أيضًا عددًا من الحقوق؛ منها:
1- حقُّه أن يستر عليه أخوه عيوبَه وأخطاءه، وواجبه في ألا يضع نفسه مواضع المحرمات والشبهات.
2- وحقُّه في أن يردَّ عنه أخوه غيبتَه، وواجبه في أن يلتزم خلق الإسلام؛ حتى لا يعيبَه أحدٌ.
3- وحقُّه في أن يعفوَ عنه، وواجبه في ألا يخطئ في حق أخيه ولا في حق أحدٍ من الناس.
4- وحقُّه في أن يحسن إليه أخوه، وواجبه أن يُقابَل هذا الإحسان بإحسانٍ مثله أو أكبر منه.
5- وحقُّه في أن ينطق له أخوه بما يحب، وواجبه في أن يكون موضع رضا الله تعالى ورضا الناس.
6- وحقُّه في أن يترك أخوه مجادلته أو مماراته، وواجبه في ترك التعصب للرأي.
7- وحقُّه على أخيه في أن ينصحه ويعلِّمه، وواجبه أن يقبل النصيحة، ويشكرها له، ويُقبل على التعلُّم برغبةٍ ومحبة.
8- وحقُّه في أن يفيَ له أخوه حيًّا وميتًا، وواجبه في أن يبادل أخاه وفاءً بوفاءٍ.
9- وحقُّه في أن يخفِّف عنه أخوه أعباءه، ويقضيَ حاجاته، وواجبه في أن يقضيَ حاجات نفسه وإخوانه.
10- وحقُّه على أخيه في أن يدعوَ له أخوه بظهر الغيب حيًّا وميتًا، وواجبه الدعاء لأخيه ولسائر المسلمين.
إن هذه الحقوق والواجبات إذا روعيت والتزم بها المتآخون في الله فقد حقَّقوا أخوتهم في الله، وجعلوا هذه الأخوة قادرةً على تحقيق أهدافها؛ من تعارفٍ وتفاهمٍ، وتعاونٍ وتكافلٍ وتناصرٍ، عندئذٍ تتحقق قوةُ الوحدة والترابط، وهي أول القوة وأعظمها أثرًا في بناء الأمم وتربية الشعوب.
ومن آثار الحب والتآخي في الله أن يشعر الأخ بروح الانتماء والولاء، كما أنه يكون لديه الشعور والإحساس بالقوة والمنعة، وأيضًا يشعر الأخ بالراحة والطمأنينة والأمن حين يرى إخوانه يشاركونه أفراحه وأحزانه وأعماله كلها؛ إذ بغير هذه المشاركة لا يشعر بالأخوة ومعاني الحب في الله.
إن الحب في الله له عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة؛ إذ هو طاعةٌ لله تعالى وامتثالٌ لأمره، واتباعٌ لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجزاءُ الطاعة هو الفوز بالجنة والخلود فيها ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (النساء: من الآية 13).
ولقد حَرَصَ الإمام البنا رحمه الله على غرس معاني الحب والأخوة في نفوس إخوانه بتوجيههم الدائم نحوها، ومن هذه التوجيهات:
"واذكروا جيدًا أيها الإخوان و الأخوات أن كل شعبةٍ من شعبكم وحدةٌ متصلةُ الروح، مؤتلفةُ القلوب؛ جمعتها الغاية السامية على هدفٍ واحدٍ وأملٍ واحدٍ، وألمٍ واحدٍ وجهادٍ واحدٍ، وأن هذه الوحدات المؤتلفة يرتبط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، ويحنُّ بعضها إلى بعض ويقدِّر بعضها بعضًا، وتشعر كل واحدةٍ منها أنها لا تتم إلا بأخواتها ولا تكتمل أخواتها إلا بها، كلبنات البناء المرصوص؛ يشد بعضُها بعضًا، وأنها جميعًا بمركزها العام أوثق ارتباط وأسماه وأعلاه روحيًّا وإداريًّا، وعمليًّا ومظهريًّا، وتدور حوله كما تدور المجموعة المتماسكة من الكواكب المنيرة حول محورها الجاذب وأصلها الثابت؛ لتحقق بذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)".
"أيها الإخوان أيتها الأخوات.. لا أكتمكم أني مزهوٌّ بهذه الوحدة الإخوانية الصادقة، فخورٌ بهذا الارتباط الرباني القوي المتين، عظيمُ الأمل في المستقبل ما دمتم كذلك أخوةً في الله متحابين متعاونين، فاحرصوا على هذه الوحدة؛ فإنها سلاحكم وعُدَّتكم".
نسأل الله العظيم أن يؤلِّف بين قلوبنا، وأن يوحِّد صفنا، وأن يبارك فينا إخوتنا، وأن يجمعنا على محبته وطاعته.. اللهم آمين.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
عن موقع إخوان إون لاين